الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
“كل بني آدم خطاء” كلمات نستقرئ من بين حروفها الدعوة إلى الرفق بالمخطئ وحسن الظن به، فقد تتغلب الغريزة على العقل، وتطفئ ظلمة الشهوة شعلة الإيمان، فيقع الخطأ الذي يردّ المؤمن إلى وعيه، بعد أن كان يظن أنه وصل إلى مستوى فوق الناس؛ فيتنبّه أنه مهما وصل إلى درجات الطهر والنقاء فإن المادة التي خلق منها ستجذبه إليها، فيُلطّخ الطينُ نقاء الروح، عند ذلك يدرك أن انشغاله بتصحيح عيوبه وتقويم سلوكه أهم من الالتفات لعيوب الناس وانتقاصهم.
إن هذا المخطئ بحاجة إلى من يُنهضه بعد أن كبى، ويرده إلى الطريق بعد أن ضلّ، فكم ضل ناس بعد الهدى، وارتد آخرون على أعقابهم بعد فترة من الاستقامة والتقى، وما ذلك إلا بسبب كلمة طنت في آذانهم سمعوها بعد أن وقعوا في هفوة، أو سوء معاملة بعد أن زلت قدمهم عن سهو أو نسيان، فإذا الحال ينقلب، ويتبدل المحسن إلى مسيء!
معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمخطئ كانت في منتهى الرأفة والتقدير للضعف البشري، فلا يزيد على تنبيهه إلى خطئه، وربما يغضب وقت حدوث الخطأ أو علمه به، ولكن غضبه بسبب انتهاك حرمات الله، ولتربية هيبة الله في قلوب أصحابه، ثم بعد أن يصل هذا الدرس إليهم يعود إلى معاملة هذا المخطئ وكأن شيئًا لم يكن.
ومثال ذلك ما وقع لأسامة بن زيد في واقعتين؛ إحداهما: عندما شفع بشأن المرأة المخزومية التي سرقت وطلب عدم قطع يدها (كما في البخاري)، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: “أتشفع في حد من حدود الله؟”.
والثانية: عندما كان في بعثٍ في إحدى السرايا، فلحق هو ورجل من الأنصار رجلًا من المشركين، فلما غشيه السيف، قال المشرك: آمنت بالله، فكفّ عنه الأنصاري، وطعنه أسامة برمحه حتى قتله، فلما بلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال لأسامة: “أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ّ” قال: يا رسول الله إنما كان متعَوّذًا، قال: “أقتلته بعدما قال” لا إله إلا الله؟، قال: فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. (الحديث في الصحيحين).
فهل تغيرت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بعد هاتين الهفوتين؟ لم يفعل ذلك أبدًا، بل لقد ولاه إمرة جيش فيه أبو بكر وعمر.
مثال آخر على تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المخطئ؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً على عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُلَقَّبُ حِمَاراً، وكان يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قدْ جلدَه في الشَّراب (الخمر)، فأُتيَ به يوماً فأمَرَ بِهِ فجُلِدَ، فقال رجلٌ مِن القوم: اللَّهُمَّ العَنْه، ما أكثر ما يُؤتَى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تَلْعَنُوه، فوالله ما عَلِمْتُ إلَّا أنه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه” رواه البخاري.
على الرغم من أن هذا الرجل قد ارتكب كبيرة، وجلد بسببها أكثر من مرة، على الرغم من ذلك لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم عليه أحد بسوء، ولم تكن تلك المعصية لتمحو حسنات هذا الرجل وفضله، حتى أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، فماذا سيكون حال هذا المخطئ مع مثل هذا التعامل الرفيق وهذا المدح الذي سمعه؟ بالتأكيد سوف يقلع عن هذه المعصية ولا يعود إليها.
نموذج أخير لن أعلق عليه بشيء: عن معاوية بن الحكم السُّلَمي رضي الله عنه قال: “بينا أنا أصلي مع رسول الله ﷺ إذْ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَّاهْ، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجلعوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله ﷺ فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن” رواه مسلم.
0 2٬121 2 دقائق