الإيثار/ طارق شعباني
الحمد لله القابض الباسط، والصلاة والسلام على معلم الناس المآثر والمحامد، وعلى آله الأطهار، وصحابته المهاجرين والأنصار الأماجد
وبعد، فإني محدثكم عن خلق عظيم يبعث في النفس الشعور والرأفة، وفي الغير القناعة المودة، ويورث في قلب فاعله الصفاء وفي ماله النقاء، ذكره الله تعالى في كتابه، ووصف به صفوة عباده، فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
ذكر في سبب نزول هذه الآية عدة آثار، سأذكر منها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أُهدِيَ لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إنَّ أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منَّا، قال: فبعث إليه، فلم يزل بعث به واحدًا إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول، فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية. أخرجه الحاكم في المستدرك.
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الأشعريين على إيثارهم فقال: ((إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)). متفق عليه.
وصوَّر لنا الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمل الصور، وأعطونا أرقى النماذج في الإيثار، فها هو أبو طلحة رضي الله عنه يوم أحد يجعل نفسه ترسًا للنبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: يا نبيَّ الله، بأبي أنت وأمي، لا تُشرِفْ يُصِيبُكَ سهم من سهام القوم، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ.
وهذا أبو جَهْم بن حذيفة العدويُّ رضي الله عنه يروي لنا ما شهده في معركة اليرموك، يقول: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي، ومعي شَنَّةٌ من ماء، وإناء، فقلت: إن كان به رمق سقيته من الماء، ومسحت به وجهه، فإذا أنا به يَنْشَغُ، فقلت له: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، فأتيته، فقلت له: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشان فإذا هو قد مات، ثم أتيت ابن عمي فإذا هو قد مات.
رضي الله عنهم أجمعين، آثر كل منهم أخاه على نفسه بروحه وهو في أصعب اللحظات، وبماله وهو في أمس الحاجة إليه، وبطعامه فكفى واكتفى، ووقى نفسه من الشح وشرى الدنيا بالآخرة، وأفلح وأنجح.
فما أحوجنا اليوم لأن نتأمل تلك السير ونستفيد منها في مثل هذه الظروف، ونقتدي بمن لاقى أصعب مما لاقينا، ونرقى رقيهم في أعلى درجات السخاء والكرم وطيب النفس، ونتفقد إخواننا وجيراننا وأرحامنا، ونقاسمهم العيش والخبز ولو كنا في غير وسع؛ ونسعى في كفاية مجتمعنا، ولنذكر النعم التي أنعم الله بها علينا، وأن الذي أعطانا اليوم ومنع عن غيرنا قادر على أن يمنع عنا غدًا ويعطي غيرنا، ليتحقق فينا الزهد في الدنيا فيحبنا الله ويوسع علينا ويبارك لنا في رزقنا، ونزهد فيما عند غيرنا فنقي أنفسنا الشح ونكون من المفلحين.
أسأل الله عز وجل أن يعزنا باتباع ديننا، ويكفينا بما عندنا، ويبارك لنا في رزقنا بإعانة إخواننا، ويفرج عنا ما نحن فيه إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين.
0 2٬201 2 دقائق