الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فنحن على مشارف ركن من أركان الإسلام، سيطل علينا ببركاته، ويفيض فيه ربنا برحماته وبالعتق من نيرانه، إنها أيام قلائل ويهل ضيف كريم ينتظره ملايين الناس بكل شغف، ولكن يتباين هؤلاء الناس في طريقة استقبالهم له، فقد استعد له أهل الفن بمئات الأفلام، واستعد له البعض بألوان الطعام، فما هو استعداد من يريد رضا الرحمن والرقي إلى أعلى الجنان؟
قال الله تعالى معظما شهر رمضان ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(، وقال تعالى ) شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(، هذا الشهر المبارك موسم خير، وموسم عبادة، تتضاعف فيه همة المسلم للخير وينشط للعبادة.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، ويحفزهم فيه للعمل الصالح، حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم) رواه النسائي والبيهقي.
إن شهر رمضان مليء بالفضائل، وتعرض فيه الأجور العظيمة فهنيئا لكل من صامه وقامه إيمانا واحتسابا، واستغل ساعاته استغلالا. ويكفي من فضائل رمضان أنه سينجي صاحبه من كرب الإحراق أثناء مروره على الصراط، فهو عازل لك من النار أثناء مرورك على الصراط، حيث قال رضي الله عنه (الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنْ النَّارِ) رواه الإمام أحمد.
والمرور على الصراط أمر لا بد منه يوم القيامة، لأننا سنأمر بالمرور على النار عبر هذا الصراط، والعبد إما سيمر على هذا الصراط بسلام أو آلام أو سقوط في النار عياذا بالله، فالصراط طريق محرق، لأن أسفله نارُ جهنم على عمق سبعين سنة، وفي هذا الموقف الحرج يأتي الصيام ليعزل صاحبه من النار أثناء مروره على الصراط.
لذلك احرصوا -رحمكم الله- على صيانة هذا الحصن من أي خارق له، خصوصا آفات اللسان، كالغيبة والنميمة. فقد روت عَائِشَةُ -رضي الله عنها- عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنْ النَّارِ، فَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلا يَجْهَلْ يَوْمَئِذٍ، وَإِنْ امْرُؤٌ جَهِلَ عَلَيْهِ فَلا يَشْتُمْهُ وَلا يَسُبَّهُ، وَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) رواه النسائي.
وقال عُبَيْدَةَ بْن الْجَرَّاحِ رضي الله عنه : “الصَّوْمُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا”، رواه النسائي، أي أن الصوم عازل ومانع من حرارة النار ما لم يخرق هذه العازل بالذنوب التي أشدها الغيبة.
ويكفي من فضائل رمضان أيضا أنه يرفع العبد إلى أعلى درجات الجنان، وشاهد ذلك ما رواه طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ – اسم قبيلة – قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ إِسْلامُهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْ الآخَرِ فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: (مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ)؟ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ)؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) رواه ابن ماجه.
ومعلوم أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، فكل رمضان تصومه يرفعك الله به درجة أبعد ما بين السماء والأرض، ألا يستحق أن تفرح بقدوم رمضان؟ وأن تسأل ربك أن يبلغك صوم رمضان؟ بلى والله.
شهرٌ أيامهُ نفيسة وحسناتهُ كثيرة، شهرٌ يُصَفِّدُ فيه الباري مردة الجن والشياطين من أجلنا، وأَمَرنا بالتنافس فيه في شتى الميادين، فهنيئا لمن صامه، وهنيئا لمن أشغل وقته بتلاوة القرآن، وحفظ جوارحه من شتى الآثام. قال عنه صلى الله عليه وسلم : (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ) رواه الترمذي والحاكم. فكل ليلة يناد مناد من الملائكة: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ و َيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ.
أما اليوم فقد انبرى في وجه ذلك الداعي قنوات فضائية فاسدة ومواد إعلامية تنادي: يا باغي الشر أقبل ويا باغي الخير أقصر، قنوات فضائية أظن أنها عاهدت الشيطان أن تقوم مقامه وتؤدي دوره في إضلال الناس خلال فترة تصفيد الشياطين.
ولقد نجحت هذه القنوات الفضائية في سرقة أوقات الناس وإضلالهم وإفساد عقائدهم وأخلاقهم باسم الترفيه عن الصائمين. فلم يكف هذه القنوات والعاملين فيها ما قاموا به طوال العام من إفساد في بيوت المسلمين ليزداد إضلالهم في موسم يحترمه المسلمون.
إن هناك كمٌّ هائل من المسلسلات الرمضانية والبرامج الترفيهية تم تجهيزها الآن في معظم القنوات الفضائية، والغرض منها تشتيتنا وإلهائنا عن أداء العبادات في رمضان، فلكم أن تتخيلوا من بعد الإفطار وحتى السحور كمية المسلسلات التي تعرض في هذا التوقيت بالذات، فمتى سيصلى العبد الفرائض والتراويح؟ ومتى سيتفرغ لقراءة القرءان ومتى سيصل أرحامه؟ ومتى يفرغ قلبه لذكر الله وطاعته؟
شهر رمضان كان عند السلف يعرف بشهر القرآن، ولكن حوَّله الإعلام إلى شهر مسلسلات وأفلام!
إنكم ترون منذ أول شعبان ومعظم المحطات الفضائية تعرض بين كل فاصل وآخر؛ دعاية عن مسلسل أو برنامج سيعرض في رمضان، بقولها عبارة (قريباً في رمضان) أو عبارة (ترقبوا على شاشتنا في رمضان)، أو عبارة (حصرياً خلال رمضان).
لماذا شهر رمضان بالذات أصبح هو الموسم الذي تكثف فيه القنوات الفضائية برامجها ومسلسلاتها ومجونها؟ مما جعل كثيرا من الناس رجالا ونساءً يتسمرون أمام القنوات ولساعات طوال، يتابعون المسلسلات الرمضانية والكاميرا الخفية. فقد أشغلت هذه القنوات الناس عن الذكر وقراءة القرآن، وحببتهم للفسوق والعصيان.
إن المستفيد الأول من هذه المسلسلات هم المنتجون لها؛ لأنهم يحصدون الملايين من بيعها للقنوات الفضائية، والمستفيد الثاني هي القنوات الفضائية لأنها تحصد الملايين من الدعايات التي تعرضها أثناء تلك المسلسلات، والمستفيد الثالث هم الشركات التي تروج سلعها عبر الدعايات، وأما الخاسر الوحيد في هذه العملية هو المشاهد؛ هو أنت، لأنه سيضيع وقتك الثمين في الشهر الفضيل، وقد ترجع بخفي حنين.
إن بلوغ رمضان نعمةٌ كبرى، يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون. وإن واجب الأحياء استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، إنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة، فإن أبواب الجنة مفتوحة لنا في هذا الشهر، فلنكن من الداخلين، إنها فرصة ثمينة لكل مقصر -وكلنا مقصرون – أن نفوز بمغفرة من الله، وعتق من النار، فإذا لم يغفر لنا في رمضان فمتى نرجو المغفرة؟! فالحذر أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في محاورة بينه وبين جبريل الأمين حين طلب من النبي صلى الله عليه وسلم التأمين على دعائه – ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب حيث قال: (من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين))! فمن حرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي؟
فاحذروا سراق الأوقات وهي القنوات الفضائية التي ستهاجمنا بأفلامها وخيلها ورجلها، فاحذروها أن تسرق منكم أوقاتكم وتلهيكم عن مرضات ربكم، وأكثروا الدعاء في رمضان، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة – يعني في رمضان – وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة) رواه البزار.
اللهم بلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن يصومه إيمانا واحتسابا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.