المقالات

خلل المسلمين من داخلهم

لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد قورماز- تركيا

لقد أنزل الله تعالى هذا الدين إعلاناُ عالمياً للإصلاح والمصالحة ..

وقد جاء الإسلام شاملاً ليصلح العلاقة بين الإنسان ونفسه والآخر والكون الذي يعيش فيه .. فليس الكون حسب التصور الإسلامي إلا خلقاً من خلق الله ونحن عباد لله .. فنكون بهذا أخوة مع الكون في المخلوقية.

و بينما تحاول الفلسفات المختلفة أن تفسر وجود الإنسان وهدفه من الحياة بمادية بحتة، جاء الإسلام ليقول إنه مخلوق مكرم من سيد هذا الكون كله، ووحّدنا جميعاً تحت راية هدفها تحقيق العدل للناس كافة، لا فضل فيها لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والناس فيه سواسية كأسنان المشط، وهم جميعاً أعداء الظالم المستبد و المتجاوز المعتدي ( فلا عدوان إلا على الظالمين ).

الصلح والإصلاح والمصلحة والفساد والإفساد والمفسدة، مصطلحات مهمة جداً في المنظومة المعرفية الإسلامية، بل هي من أكثر ما يميزها، فالفقه الإسلامي يقوم في جانب ضخم منه على تحقيق الصلح ومنع الفساد و جلب المصالح ودفع المفاسد .. والقاعدة المشهورة: “أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله ” دليل على هذا.

لكن الكثير من الإفساد تم باسم المصلحة ..

“وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون” ..

وكل الفساد في هذا الكون إنما يظهر من فعل الإنسان الظالم المتعدي :

“وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ”

“ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس “.

فنحن محتاجون إلى الإصلاح بقدر ما يملأ الفساد هذا العالم .. وهنا يأتي دور العلماء .. ورثة الأنبياء، الذين لم يرثوا من الأنبياء معلومات فقط، ولم يكونوا في هذا المقام لأنهم يحفظون النصوص و يفسرونها للناس على المنابر .. بل ورثوا من الأنبياء رسالة الإصلاح والمصالحة، وقيادة المجتمع نحو غد أفضل، بعيداً عن البغض والكراهية والأحقاد والدفائن .. وجود العلماء الصالحين خير .. لكن الذي يحفظ الأمة هو وجود العلماء المصلحين : ( وما كان ربك مهلك القرى وأهلها مصلحون ) لا صالحين فقط.

درء المفسدة واجب من أهم الواجبات، ويعظم الواجب كلما عظمت المفسدة، والمفسدة التي تحيط بالأمة اليوم مفسدة عظيمة جداً، النيران تشتعل في كل نواحي أمتنا، ولن يطفئها إلا العلماء الذين بيدهم مفتاح الصلح الاجتماعي .

وهنا لا بد من توجيه رسالتين مهمتين :

الرسالة الأولى لأصحاب السلطة و الولاية العامة على المسلمين؛ لقد جعلكم الله في موقع مسؤولية عن الإسلام والمسلمين في مرحلة حساسة جداً، وبيدكم سلطة الأمر والنهي، بإمكانكم رفع بلادكم وإنسانكم إلى أعلى مراتب الحضارة، أو إرجاعه إلى أقبية الجهل والظلم.

لطالما استخدم البعض شعار المصلحة العامة ليأكل حقوق الشعوب، ويفسد فيها أي فساد، وينتهك حقوق الإنسان .. وأي مصلحة في قهر خلق الله، أي مصلحة في تضييع حقوقهم، وتغييب وعيهم، و الدوس على كرامتهم. وكل هذا باسم المصلحة ؟!!

فرسالتنا لهم : خذوا مكانكم الصحيح في التاريخ، وكونوا على قدر المسؤولية التي أوكلت إليكم. فإن الحاكم الصالح نعمة من نعم الله على عباده، يدعو له الشجر والحجر قبل العباد، اجعلوا العلماء بجانبكم ولا تهمشوهم ، ولا تحاصروا حريتهم، فهم عون لكم في مسيرة الإصلاح، وهم خير من يسأل يستشار. .

ولا بد لنا هنا من أن نبعث رسالة خاصة إلى الكرام أولياء الأمور في المملكة العربية السعودية فنقول :

كل دولة لها حق السيادة على أرضها ومواطنيها، لا ينكر هذا إلا مكابر، لكن الأمة بحاجة إلى علمائها يا خادم الحرمين الشريفين، العلماء وإن كانوا مواطنين في دولهم، إلا أن آثارهم وخيرهم متعدٍّ إلى كل العالم، فهم علماء الأمة كلها وليسوا علماء دولة دون غيرها.

نحن علما ء الأمة نطلب من خادم الحرمين الشريفين أن يعيد التفكير في أوضاع العلماء في بلاد الحرمين، فهم لم يرتكبوا جرماً ولم يقترفوا ذنباً، ونحن والله نشهد بأنهم يحبون أمتهم وأوطانهم أشد الحب وأنقاه، فهلا وجدت دعوتنا لديكم يا خادم الحرمين منزلاً نأمله من أصحاب الفضل والفضيلة.

أملنا بالله كبير ..

والرسالة الثانية :

إلى شيوخنا وعلمائنا ومؤسساتنا الدينية، لا بد أن نستفيد من التجارب السابقة في أمتنا ونعمل على النقد الذاتي والإصلاح المستمر لمسيرة ذواتنا ومؤسساتنا لنكون قدوة لمجتمعاتنا ..

مؤسساتنا الدينية التي كانت يوماً ما منارة لكل تائه، فقدت الكثير من مكانتها وثقلها المجتمعي والعلمي، لأن بعضها انساق وراء لهاث التبرير السياسي، فأصبحت تابعة لا متبوعة، وقاصدة لا مقصودة، وأصبحت أي فتيا من قبلها مكاناً للشك من قبل العامة والخاصة.

وبعض مؤسساتنا توجهت نحو التفرقة بدل التوحد، وفرقت بين الناس والدول والمجموعات البشرية، وبعض علمائنا للأسف كذلك، فأصبح وجودهم عبئاً على الأمة بدلا من أن يكون زاداً لها ووقوداً للإصلاح.

رسالتنا إليهم هنا:

إلى علماء الأزهر الشريف، والزيتونة، ومؤسسات الإفتاء في كل العالم، ومراكز الدعوة والإرشاد، ومؤسسات البحث والعلوم الشرعية .. وكل علماء العالم الإسلامي .. دعونا نوحد كلمتنا، ونجعلها كلمة للإصلاح والمصالحة، كلمة ضد وضع الملح عل الجروح، رسالة صفح ومسامحة، تلئم جراح هذه الأمة بعد نزيف طويل.

دعونا نترك النقاش والخلافات، و التركيز على الفرعيات والجدليات، ولنوجه طاقتنا لتعود هذه الأمة أمة واحدة، رسالتها واحدة ، نبيها واحد، ربها واحد .. لنأخذ مكاننا بين الأمم العلية .. التي يفتخر بها أنبياؤها يوم القيامة، لا نلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فرقنا بين أتباعه وأثخنا في أمته الجراح .

يا معشر العلماء يا ملح البلد … من يصلح الملح إذا الملح فسد

الإصلاح يبدأ في المجتمعات أنفسها وعلى رأس هذه العملية: الإصلاح الأخلاقي، مجتمعاتنا تعاني لظروف كثيرة من ردة أخلاقية، وهذا يرجع للكثير من الأسباب لا مجال لذكرها، إلا أن من أهمها ما بدأ ينتشر بين الكثير من الناس من نسبية الأخلاق، والذي يعتبر الحق والباطل، والخير والشر، مواقف نسبية تتغير بتغير المواقف، وهذا من آثار التفسير المادي الذي ذكرناه سابقاً.

والمصالحة بين العلماء والمؤسسات العلمية من أهم خطوات الإصلاح، فكيف ستصلح المجتمعات وهم ينظرون إلى قدواتهم متفرقين .. بينهم من الخلاف ما الله به عليم .. بعضه خلاف علمي، وكثير منه خلاف تشوبه الشخصية وحظوظ النفس؟!

فالصراعات التي بين الكثير منا ليست إلا نتاج الوعي المجروح الذي نما وكبر تحت الفقر والجهل والعبودية في ظل الاستبداد، عقب فترات الاحتلال والاستعمار.

وفي ظل احياء البعض للصراعات التاريخية بحجة الثأر من هذه الطائفة أو تلك، علينا أن نحاسب أنفسنا .. ونسأل : أين كنا؟ وأين أخطأنا؟ وماذا كنا نفعل في الوقت التي كانت تتسلل فيه الهويات الدموية والطائفية والجاهلية إلى شبابنا وشيباننا

عندما تتصاعد رائحة البارود من العالم الإسلامي .. يجب أن تكون همومنا مشتركة وأدعيتنا مشتركة

فليس لدى المسلمين استراتيجية أفضل وأغلى من حفظ دماء المسلمين.

البعض يحاول أن يزيحنا من مكانتنا كأمة وسط بين الأمم.

ينبغي أن يتجلى موقف العلماء في اعطاء الأولوية لوحدة المسلمين وأخوتهم ومصلحتهم والدفاع عن الحق والحقيقة والعدالة.

نحن كعلماء ناقشنا حكم قتل النملة في مناسك الحج لكننا أهملنا في إعلاء أصواتنا لنقول أن قتل الأبرياء حرام.

ألا يكفي كل تلك الدماء المسفوكة .. والتعذيب والمصائب، والذل والهوان …

فلنخرج من قاعاتنا ومساجدنا ولنفعل علومنا وعقولنا وقلوبنا وأقلامنا ..

ولنعلي أصواتنا وصرخاتنا ولنطفئ نيران الفتنة ..

إن المذاهب تعكس الأفكارو الآراء المختلفة، وهي مدارس بشرية تكونت عبر الزمن .. وغايتها جميعاً توضيح الطريق لله تعالى .. وهي كلها طرق فرعية إلى الطريق العام .. ولا يمكن القبول أبدا بجعل الطريق الفرعي موازيا للطريق العام .. وجعل الانتساب إلى المذهب أولى من الانتساب إلى الدين الإسلامي .

يا علماءنا الأجلاء .. إن دين الله تعالى مبني على كلمتين … على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ..

أي وحدانية الله سبحانه ووحدة أمته التي تعبده: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”.

لكننا مع الأسف بدأنا ندخل في آية أخرى : “الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ، كل حزب بما لديهم فرحون”.

نحن لا نقول إن الدول الغربية والشرقية لا تحاول أن تفرق بيننا .. فهذا واضح، ,هذا متوقع منهم فهذه مصالحهم، أما الخلل الذي يأتي من داخل البيت فهو الخلل الكبير، والظلم الذي يقع من القريب هو الظلم العظيم:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة …على النفس من وقع الحسام المهندِّ

وأخيراً وليس آخراً .. فالإصلاح والمصالحة بين الدول الإسلامية، التي نعلم ما بينهم من خلافات، و صلحنا والله هو الخير لنا، ووحدتنا والله قوة لنا، لكن الشيطان ينسج بيوته، والعلماء قادرون على تمزيق هذه البيوت وإحراقها.

ليكن شعارنا.. “إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ”.

فلنصلح ما استطعنا، ولنحيي الأرض الموات ما استطعنا .. لنكون فعلا تلك الأمة الوسط التي هي خير أمة أخرجت للناس ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى