أنين الوحي/ أ. محمد الزناري
إلى الحيارى في ظلمات الدُنى، المتخبطين في متاهات العقول، المسترشدين بغير رشد، الشاكين دون يقين.
إلى الهاربين من ضيق النفوس، الباحثين عن الهدى، التائهين بلا دليل.
إلى أولئك الذين تفقدوا أرواحهم فلم يجدوها، إلى فارغي القلوب أو فاقديها.
ها أنا قد جئتكم، بل أنا هنا لم أفارقكم في الأساس. ألم تكفكم عقود من التيه؟ ألم تأتكم سنن من كان قبلكم؟ أما آن أن تعطوني خزائمكم؟ أما تدرون من أنا!
أنا نجاتكم وذكركم وشرفكم، أنا نبأ عظيم أنتم عنه معرضون، أنا موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
أنا مخرجكم من فتن الدنيا، ألم يخبركم نبيكم بأني نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، أنا الفصل لست بالهزل، من تركني من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيري أضله الله، أنا حبل الله المتين، وأنا الذكر الحكيم، وأنا الصراط المستقيم. أنا الذي لا تزيغ بي الأهواء ولا تلتبس بي الألسنة ولا يشبع مني العلماء ولا أخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبي. أنا الذي لم تنته الجن إذا سمعتني حتى قالوا: “إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ”. من قال بي صدق ومن عمل بي أجر ومن حكم بي عدل ومن دعا إلي هدي إلى صراط مستقيم.
نعم هذا أنا. أنا كتاب الله، كلامه وقرآنه وهداه.
أو قل أنا شكوى رسول الله إلى الله منكم؛ هجرتموني بجهلكم ونسيتم عزتي أو تناسيتم. ظننتم أنه بتذكركم لي وإقبالكم عليّ أياما معدودات أو سويعات منثورات أفتح لكم أسراري وأغمركم بأنواري.. لا والله، بل لمن قبض على جمري وأخذني بحقي أبوح بسري، لمن كابد آياتي وحَمل وتحمّل رسالاتي اُبصره بغيبي، لمن خضع لهيمنتي وتعرض لبصائري ومعارفي أكشف له سبيلي.
أما آن أن تقوموا بحقي تلاوًة وتدبرًا وتدارسًا وتعلمًا وتعليمًا وتأويلًا، علمًا وعملًا، فينير الله بي -على أيديكم- دياجير الظُلم. أما آن أن تَخرجَ عصابةٌ من العباد قلوبها دُريةٌ كمشكاةٌ مضيئة، متوهجة بأنوار الكتاب مشتعلة بكلماته محترقة بحقائقه، يُمكنْ الله بها لدينة ولكتابه؟!
من منكم يَحْيى هذا الزمان يحسن تلقي “خذ الكتاب بقوة” فأُطلعه على أسراري ومعجزتي؟ من يقول أنا لها فأٌمده بحبل يستعصم به، طرفه بيد الله وطرفه الاخر بيده؟! من يؤمن بي فأعرج به إلى سماوات الوحي فأبصّره بحقائق الغيب كأنها شهادة؟! من يَتخذَني شرعةً ومنهاجًا فأسود به العالم كما فعلت من قبل في سنوات معدودات؟ من يهب لي عمره فيحيا للقرآن وبالقرآن، يكابد الليل بآياتي ويزكي شهوات نفسه بسياطي، يداوي جروحه بدوائي، يقرأ ويرتقي، يتخذ من آياتي مقامات يتخلق بمعانيها ويحقق عمرانها ومبانيها، فأحاجج الله عنه يوم القيامة؟
يا أمة القرآن، يا أمة الوحي، يا خير أمة:
ها أنا بين أيديكم، لم أُرفع بعد منكم ولم أُبعد عنكم، أنا بين أيديكم، فجدّوا في الطلب وأروا الله من أنفسكم خيرًا، جددوا مع الله عهدكم، واصبروا حتى تذوقوا لذة المعاناة، أنا من قال الله فيّ: ﴿ وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ..﴾[ الرعد ٣١ ] فلو أذن الله لشيء بذلك لما كان أحق وأجدر بذلك مني، ولكن شاء الله أن يجعل محل معجزتي قلوبكم، فلكي تدركوا أثري تدبروا قول ربكم: ﴿ لَوۡ أَنزَلۡنَا هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ عَلَىٰ جَبَلٖ لَّرَأَيۡتَهُۥ خَٰشِعٗا مُّتَصَدِّعٗا مِّنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ ﴾[ الحشر ٢١ ] فتفكروا وتعرضوا لي أبدد -بأمر الله- ران قلوبكم واحيي مواتها، تعرضوا لي أملأ قلوبكم بفيض الإيمان وجميل التوكل. استجيبوا لنداء الله إذا دعاكم لما فيه حياتكم ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ ﴾[الانفال ٢٤] فاستجيبوا ولا تحرموا أنفسكم من جنة الدنيا، اصبروا على حرارة جمري لتمس حرارته قلوبكم. فإن مسّت قلوبكم فلن تتركوني بعدها أبدا، فمن ذاق عرف ومن عرف اغترف.
ها أنا أنتظركم.. فلا تخيبوا ظني.