مقال للدكتور/ فادي شحيبر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فمن الأمور المهمة التي ينبغي التنبيه عليها في زماننا هذا الذي عمَّ فيه البلاء وطمَّ أن بيننا إخوة فقراء مستضعفين محتاجين ليس لهم ما يعولون به أنفسهم وأهليهم وأولادهم، ولا كسب لهم، وقد حصل ما حصل من ضرورة العزل الاجتماعي وملازمة البيوت، فهؤلاء لا يجدون ما ينفقون ولا ما يسدون به الرمق، ولذلك ينبغي مساعدتهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وإن كان هذا الأمر قبل الأزمة واجباً وجوباً كفائياً، فهو الآن واجباً وجوباً عينيّاً على المستطيع. قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾، فالتعاون: هو أن يعين الناس بعضهم بعضاً على البر والتقوى وفعل الخير.
والناس باعتبار ما يقدمونه من معاونة وما يحققونه من معاني الأخوة والتعاون ينقسمون إلى أقسام أربعة كما ورد في كتاب أدب الدنيا والدين للإمام الماوردي رحمه الله:
الأول: مِنْهُمْ مَنْ يُعِينُ وَيَسْتَعِينُ.
الثاني: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ.
الثالث: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِينُ وَلَا يُعِينُ.
الرابع: وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ.
ثم قال: فَأَمَّا الْمُعِينُ وَالْمُسْتَعِينُ: فَهُوَ مُعَاوِضٌ مُنْصِفٌ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ ، وَيَسْتَوْفِي مَا لَهُ، وَهُوَ مَشْكُورٌ فِي مَعُونَتِهِ ، وَمَعْذُورٌ فِي اسْتِعَانَتِهِ، فَهَذَا أَعْدَلُ الْإِخْوَانِ.
وأما مَنْ لَا يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ: فهو متروك، قَدْ مَنَعَ خَيْرَهُ ، وَقَمَعَ شَرَّهُ، فَهُوَ لَا صَدِيقٌ يُرْجَى ، وَلَا عَدُوٌّ يُخْشَى.
وأما مَنْ يَسْتَعِينُ وَلَا يُعِينُ: فَهُوَ لَئِيمٌ كَلٌّ ، وَمَهِينٌ مُسْتَذَلٌّ، قَدْ قَطَعَ عَنْهُ الرَّغْبَةَ ، وَبَسَطَ فِيهِ الرَّهْبَةَ ، فَلَا خَيْرُهُ يُرْجَى ، وَلَا شَرُّهُ يُؤْمَنُ، فَلَيْسَ لِمِثْلِهِ فِي الْإِخَاءِ حَظٌّ وَلَا فِي الْوِدَادِ نَصِيبٌ.
وأما مَنْ يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ: فَهُوَ كَرِيمُ الطَّبْعِ، مَشْكُورُ الصُّنْعِ، وَقَدْ حَازَ فَضِيلَتَيْ الِابْتِدَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ، فَلَا يُرَى ثَقِيلًا فِي نَائِبَةٍ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ نَهْضَةٍ فِي مَعُونَةٍ، فَهَذَا أَشْرَفُ الْإِخْوَانِ نَفْسًا وَأَكْرَمُهُمْ طَبْعًا .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيُّما أهل عرصة -أي: منطقة وحي وسكن- أمسوا وفيهم جائع، فقد برئت منهم ذمة الله ورسول .((أخرجه أحمد وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر.
فهذا الحديث خطير في مدلوله: فما دام في المجتمع جائعٌ واحد أو عارٍ واحد فإن إيمان الإنسان في خلل إذا قصّر في أداء واجبه.
وقد ذكر أبو يوسف القاضي في كتاب “الآثار” (رقم/899) عن أبي حنيفة النعمان رحمه الله عن الهيثم: أن قوماً مروا بماء فسألوا أهلها: أين البئر؟ فأبوا أن يدلوهم، وأبوا أن يعطوهم الدلو. فقالوا: ويحكم، إن أعناقنا وأعناق ركابنا قد كادت تقطع عطشاً، فأبوا أن يعطوهم أو يدلوهم، فذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ألا وضعتم فيهم السلاح .
وقال الإمام ابن حزم في كتابه المحلى: “إنه إذا مات رجلٌ جوعاً في بلد اعتبر أهله قتلَة، وأخذت منهم دية القتيل، -ويضيف ابن حزم بأن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره “فإن قُتِل -أي الجائع- فعلى قاتله القصاص، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله؛ لأنه منع حقاً وهو طائفة باغية”.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا في سفر فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من كان معه فضل ظهر “دابة” فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)). وهذا يستدل به على ما ذهب اليه ابن حزم من جواز القتال لأجل الفقر والفاقة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((إن لله عز وجل عبادا اختصَّهم بالنعم لمنافع العباد يُقِرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها حوَّلها عنهم وجعلها في غيرهم)). رواه أبو نعيم والطبراني بإسناد جيد.
وفي هذا المقام نتذكر معونة أهل مصر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: فقد أورد الحافظ ابن كثير في “البداية والنهاية”: أنَّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحدًا يضحَك، ولا يتحدَّث الناس في منازلهم على العادة، ولم يرَ سائلاً يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنَّ السُّؤَّال سألوا فلم يُعطوا فقطعوا السؤَال، والناس في هَمٍّ وضِيق فهم لا يتحدَّثون ولا يضحكون.
فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة: أنْ يا غوثاه لأمَّة محمد.
وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر: أنْ يا غوثاه لأمَّة محمد.
فبعث إليه كلُّ واحد منهما بقافلةٍ عظيمة تحمل البرَّ وسائر الأطعمة، ووصلت مسيرة عمرو في البحر إلى جدة، ومن جدة إلى مكة. وهذا الأثر جيِّد الإسناد؛ “البداية والنهاية”.
نلمَح من هذا الموقف أنَّ عمر – وما أدراك ما عمر! – أُصِيب الناس وهم تحت إمرته وحكمه بالمجاعة، فلم يكن عيبًا لا في عمر ولا في حُكم عمر، وقد كان يحكُم بالإسلام وبالشرع، وإنما هي حِكَمُ الله في عِباده، ففي ظلِّ الحق والصواب قد نُصاب بالمصائب والنقص والابتلاءات، وتكون نعمةً من الله على عِباده وقتئذٍ.
وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الأشعريين من أهل اليمن بأنهم يتعاونون ويسابقون في الخير، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أَرْمَلُوا – أي: نَفَدَ زادهم – في الغزو، أو قلَّ طعام عِيَالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسويّة، فهم مني وأنا منهم)) أخرجه البخاري.
ففي الحديث بيان فضل المواساة والسماحة والإيثار، وأنها كانت خلق نبينا صلى الله عليه وسلم، وخلق صدر هذه الأمة، وأشراف الناس كما ذكر القاضي عياض رحمه الله في إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم.
فصلوا أرحامكم، وأكرموا جيرانكم، وتصدقوا على الفقراء والمساكين، وتفقدوا الأرامل واليتامى، وساعدوا المحتاج، وأغيثوا الملهوف، وارحموا أهل البلاء والضعف ليرحمنا ربنا فيكشف عنّا ما حلّ بنا، إنه بعباده لطيف رحيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد