الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
له عدة تآليف منها….. كتاب في “تحريم جبن الروم”
إن الناظر في عنوان هذه المقال يتوقف ليقلب الاحتمالات بينه وبين نفسه، يا ترى هل يُقصَدُ بهذا العنوان سيرة ذاتية أو ترجمة لعلَمٍ كما يفهم من العبارة الأولى؟ أم يُقصَدُ به فتوى في تحريم جبن الروم كما يفهم من العبارة الثانية؟ ولكن ما علاقة الجبن الرومي بالأعلام أو بالفقهاء؟ ثم هل جبن الروم “على فرض أنهم كفار مشركون أهل كتاب أو وثنيون حرام؟ ثم ما الداعي إلى هكذا عناوين تثير البلبلة وتفرق ببين الشعوب الوديعة البريئة؟
لقد حق لهذا القارئ أن ترفع له القبعة – كما يقال – على هذه الفروض التي ضربها، فنعم؛ هذه الجملة من ترجمة أحد العلماء الكبار، طائر الصيت شهير الذكر، هو الأستاذ الإمام أبو بكر الطُّرطوشي، شيخ القاضي عياض، ومن شيوخه القاضي أبو الوليد الباجي وابن حزم، أصله من طرطوشة وهي بلدة من آخر بلاد المسلمين بالأندلس ، وتوفي في الإسكندرية في مصر سنة 520 للهجرة، كان إماماً عالماً عاملاً زاهداً متواضعاً ديناً ورعاً متقشفاً متقللاً من الدنيا راضياً منها بالسير، له عدة تآليف منها: مختصر تفسير الثعالبي، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف، وكتاب في تحريم جبن الروم، وكتاب سراج الملوك وهو من أنفع الكتب في بابه وأشهرها، وكتاب بدع الأمور ومحدثاتها وكتاب شرح رسالة ابن أبي زيد.
إذن وكما ورد في سيرته فإن أحد كتبه كتاب في تحريم جبن الروم، فما قصة هذا الكتاب، لم كانت هذه الفتوى؟
إن الناظر في كتاب الطرطوشي هذا يجد أنه قد اعتمد في فتواه هذه على ما نسميه حالياً نحن بالمقاطعة الاقتصادية، فهو عندما ولد رأى الصليبين يهجمون على بلاده في الأندلس ويقتلون المسلمين من أهله، وكذلك عندما رحل إلى المشرق وجد الصليبين يهجمون على ديار المسلمين هناك أيضاً، ووجد المسلمين يأكلون الجبن الرومي ويشترونه ويدخلونه إلى بلادهم ويزيدون من قوة هؤلاء الصليبيين الاقتصادية، التي تمكنهم من غزو بلاد المسلمين وقتلهم وأطفالهم ونسائهم والإساءة إلى دينهم، فنظر إلى ذلك الأمر من باب السياسة الشرعية “التي كان قد ألف فيها كتاباً أيضاً” ونظر إلى مصلحة حفظ دين المسلمين وأنفسهم وأرضهم وعرضهم، وإلى كمالية أكل الجبن الرومي، فرجح برؤية الفقيه كلية حفظ الدين والنفس والعرض على كمالية أكل الجبن الرومي، ونظر أيضاً فيما سمعه من بعض التجار الذين أخبروه بأن الروم يستخدمون شحوم الخنزير في صناعة هذه الأجبان، فأفتى بوجوب مقاطعة البضائع التي تأتي من الروم استناداً إلى كل ذلك.
ثم إنه تقدم بهذه الفتوى المدللة إلى السلطات الفاطمية التي كانت تسمح باستيراد هذه البضائع، إلا أنها قوبلت بالرفض بسبب بعض القضاة والوزراء المستفيدين من هذه التجارة مادياً، وما كان من سلطات الفاطميين إلا أن ألقت الشيخ الإمام في الإقامة الجبرية، ولكن شاء الله أن لا يمضي الشيخ كثيراً في هذا السجن، إذ قتل الوزير الذي سجن الشيخ، وتولى الوزارة صديق له، فأكرمه وأخذ بفتواه.
وأما الجواب عن سؤال ما علاقة الجبن الرومي بالأعلام أو بالفقهاء؟ ثم هل جبن الروم “على فرض أنهم كفار مشركون أهل كتاب أو وثنيون حرام؟
فإن هذا الدين شامل لكل نواحي الحياة، صغيرها وكبيرها، وكما يقال: إن هذا الدين يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الموقعون عن رب العالمين، المبلغون رسالات الله، القائمون على كلي حفظ دين الناس، المبينون للناس كيفية حفظ قسيماته من نفس وعرض ونسل ومال، وهم المبينون لدين الله، ودين الله شامل كل شؤون الحياة، ومنها الحياة السياسية والاقتصادية و ما سوى ذلك، والجبن المتولد من الحليب وإن لم يكن في شربه من أهل الكفر تحريم، لكن في تبادل البضائع مع المحاربين لأهل الإسلام منفعة لأعداء الإسلام ومحاربيه، ومن هنا صدرت الفتوى من الإمام أبي بكر رحمه الله تعالى.
وأما الجواب عن الداعي إلى هكذا عناوين تثير البلبلة وتفرق الشعوب الوديعة البريئة؟
فمع ما رأينا من هجوم وسخرية واستهزاء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من فرنسا، وما نراه حالياً من تطبيع مع عدو يغتصب أرض المسلمين، ويعتدي على أحد مقدساتهم، ويقتل المسلمين ويخرجهم من أرضهم، نرى من الواجب على العلماء أن يكونوا كسلفهم لا يخافون في الله لومة لائم، وأن يبينوا للناس أمر دينهم، وأن يقوموا بمهمتهم على أتم وجه كما أمرهم الله تعالى، (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، وأن لا يعدموا الوسائل العلمية إن أعدموا وسائل القوة، فالإمام الطرطوشي قد أعدم وسائل القوة عندما عرضت فتواه هذه على قاضي الإسكندرية المتاجر بالجبن الرومي، وأدت به هذه الفتوى إلى السجن، ومع ذلك لم يدع قول الحق وتبيينه للناس، وهزم الله الخونة من الحكام والصليبين بعد ذلك.